كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي إنجلترا وجدوا أن القانون التجاري مليء بالثغرات، ومثال هذا أن التعامل في السوق قد يتطلب بعضًا من المرونة بين التجار؛ فهذا يرسل لذلك طالبًا من الآخر ألفًا من الجنيهات؛ وفلان يردُّ ما أخذه أو يقايضه.
واصطدم الواقع بأن بعض التجار لا يعترفون ببعض الديون التجارية التي عليهم، وقديمًا كان إذا أراد تاجر أن يقترض من زميل له؛ فهو يكتب الدَّيْن في كمبيالة أو إيصال أمانة؛ وذلك لتوثيق الدَّيْن.
ولكن الأمر اليومي في السوق قد يختلف؛ فهذا يحتاج نقودًا لأمر عاجل، وزميله يثق في قدرته على الردِّ والتسديد؛ لأنه قد يحتاج هو الآخر لنقود عاجلة، ويثق أن مَنْ يقرضه الآن، سيقرضه فيما بعد؛ ولذلك أنشأوا ما يُسمَّى بالدَّيْن التجاري، فيفتحون دفترًا يُسجِّلون في الديون التجارية؛ لتحكم الدفاتر فيما يعجز عن تذكّره الأشخاص.
وذهب شاب مسلم لبعثة دراسية هناك؛ وأوضح لهم أن قضية الدّين أخذت اهتمام الإسلام؛ لدرجة أن أطول آية في القرآن هي الآية التي تحدد التعامل مع الديون؛ وأخذ يترجم لهم قول الحق سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]
وظاهر الأمر أنه يحمي الدائن، ولكن الحقيقة أنه يحمي المدين أيضًا؛ لأن المدين إنْ علم أنَّ الدين مُوثَّق؛ فهو سيسعى جاهدًا أن يؤديه في موعده، وأيضًا كي لا يأخذ النصَّابون فرصة للهرب من السداد، وبذلك حمى القرآنُ الدائن والمدين معًا كي لا تقف حركة التعامل بين الناس.
ومع هذا فإنه لم يمنع الأريحية الإيمانية والمروءة أن تسلك طريقها في عالم الود والإخاء المؤمن؛ فإنْ كان لك قريب أو إنسان لك به صِلَة، وأنت تأمنه على ما اقترض منك؛ يقول لك الحق سبحانه: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ...} [البقرة: 283]
وبهذا القول يشعر مَنْ يحمل أمانة من الغير بالخجل؛ فيعمل على رَدِّها. ثم يضيف الحق سبحانه: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا...} [البقرة: 282]
وهكذا جاء الإسلام بقوانين لا يمكن أن تخرج من أمة أُميِّة؛ لأنها قوانين تسبق العصور، وهي قوانين تنبع من دين سماوي خاتم. ولذلك عندما سألوني عن موقف الإسلام من التقدمية والرجعية، قلت لهم: إن القياس خاطئ؛ لأنك لن تستطيع أن تقيس فِكْر بشر بما أنزله رَبُّ كل البشر، وإذا كان العالم بشَرقْه وغَرْبه يهتدي إلى أيِّ خير تنتظم به حياته؛ ويجد جذورًا لذلك الخير في الإسلام؛ فهذا دليل على أن العالم يتجه إلى الوسطية.
وكان المثل في الشيوعية التي قامت ثورتها الدموية في عام 1917؛ وقالوا: إنها مُقدّمة للشيوعية؛ وسقطتْ الشيوعية من بعد أن أصيب المجتمع الروسي بالتيبُّس والجمود، والخوف من أسلوب حُكْم الحزب الشيوعي.
ونجد الرأسمالية الشرسة، وهي تُهذِّب من شراستها؛ وتعطي العامل حقَّه وتُؤمِّن عليه، وهكذا يتجه العالم إلى الوسطية التي دعا لها الإسلام.
وقد نزل الإسلام من قِبَل عالمٍ عليمٍ بكل الأهواء وبكل المراحل.
ولذلك نجد الحق سبحانه وهو يُطمئِنُ رسوله صلى الله عليه وسلم إنْ آذاه أحدٌ في المنهج الذي جاء به؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن لِيأبه بمَنْ يحاول أن يُؤذِيَه في شخصه، وكان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه؛ ولكن إنْ تعرَّض أحد للمنهج فغضبه صلى الله عليه وسلم يظهر جليًا.
ومَنْ وقفوا ضد الدين قابلهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة؛ فمَنْ آمن منهم نال حلاوة الإيمان؛ ومن لم يؤمن فقد توالتْ عليه المصائب من كل جانب، منهم مَنْ رأى النبي صلى الله عليه وسلم مصارعه.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 41-42]
أي: أنه جَلَّ وعلاَ إما أن يُلحِق رسوله بالرفيق الأعلى، وينتقم من الذين وقفوا ضده؛ أو يُريه عذابهم رَأْى العين.
وكأن هذا القول هو الذي يشرح قوله سبحانه هنا: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40]
وعذاب الدنيا كما نؤمن مَهْما بلغ فلن يصلَ إلى مرتبة عذاب الآخرة.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا...}
و{يَرَوْاْ} هنا بمعنى يعلموا، ولم يَقُلْ ذلك؛ لأن العلم قد يكون عِلْمًا بغيب، ولكن: {يروا} تعني أنهم قد علموا ما جاء بالآية عِلْم مشهد ورؤية واضحة، وليس مع العين أَيْن.
وإذا جاء قول الحق سبحانه ليخبرنا بأمر حدث في الماضي أو سيحدث في المستقبل؛ ووجدنا فيه فعل الرؤية؛ فهذا يعني أننا يجب أن نؤمن به إيمان مَشْهدٍ، لأن قوله سبحانه أوثق من الرؤية، وعلمه أوثق من عينيك.
وسبق أن قال الحق سبحانه لرسوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1]
ونعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وُلِد في عام الفيل، ولا يمكن أن يكون قد رأى ما حدث لأصحاب الفيل، ولكنه صَدَّق ما جاء به القول الحق وكأنه رؤيا مَشْهدية.
وقال الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا...} [الفرقان: 45]
وحين يُعبِّر القرآن عن أمر غيبي يأتي بفعل يرى مثل قوله الحق: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ...} [السجدة: 12]
وحين يتكلم القرآن عن أمر معاصر يقول: {أَفَلاَ يَرَوْنَ...} [الأنبياء: 44]
وهنا يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا...} [الرعد: 41]
وهذا قول للحاضر المعاصر لهم.
وتعريف الأرض هنا يجعلها مجهولة، لأننا حين نرغب في أن نُعرِّف الأرض؛ قد يتجه الفكر إلى الأرض التي نقف عليها؛ وبالمعنى الأوسع يتجه الفكر إلى الكرة الأرضية التي يعيش عليها كل البشر.
وقد تُنسَبُ الأرض إلى بقعة خاصة وقع فيها حَدَثٌ ما؛ مثل قول الحق سبحانه عن قارون: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض...} [القصص: 81]
ويقول الحق سبحانه عن الأرض كلها: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض...} [النور: 55]
وبطبيعة الحال هم لن يأخذوا كل الأرض، ولكن ستكون لهم السيطرة عليها.
وسبحانه يقول أيضًا: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله...} [الأعراف: 73]
وهكذا نفهم أن كلمة: {الأرض} تطلق على بُقعة لها حَدث خاص، أما إذا أُطلقتْ؛ فهي تعني كل الأرض، مثل قول الحق سبحانه: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10]
ومثل قوله تعالى لبني إسرائيل: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض...} [الإسراء: 104]
مع أنه قد قال لهم في آية أخرى: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ...} [المائدة: 21]
فبعد أنْ حَدَّد لهم الأرض بموقع معين عاد فأطلق الكلمة، ليدل على أنه قد شاء ألاَّ يكون لهم وَطَن، وأنْ يظلُّوا مُبعْثرين، ذلك انهم رفضوا دخول الموقع الذي سبق وأنْ حَدَّده لهم وقالوا: {إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا...} [المائدة: 24]
ولذلك قال الحق سبحانه في موقع آخر: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَمًا...} [الأعراف: 168]
أي: جعلنا كل قطعة بما تحويه من تماسك متفرقة عن القطعة الأخرى، وهذا هو حال اليهود في العالم؛ حيث يُوجَدُونَ في أحياء خاصة بكل بلد من بلاد العالم؛ فلم يذوبوا في مجتمع ما.
وقوله الحق هنا: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا...} [الرعد: 41]
مُوجَّه إلى قريش، فقد كانت لهم السيادة ومركزها مكة، ثم من بعد ذلك وجدوا أن الموقف يتغيَّر في كُلِّ يوم عن اليوم الآخَرِ؛ ففي كل يوم تذهب قبيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة لِتعلِنَ إسلامها وتبايعه.
وهكذا تنقص أمام عيونهم دائرة الكفر، إلى أن أعلنوا هم أنفسهم دخولهم في الإسلام.
وهكذا شاء الحق سبحانه أن نقصتْ أرض الكفر، وازدادتْ أرض الإيمان، ورَأَوْا ذلك بأنفسهم ولم يأخذوا عِبْرة بما رَأَوْه أمام أعينهم من أن الدعوة مُمْتدة، ولن تتراجع أبدًا، حيث لا تزداد أرض إلا بمكين فيها.
والمكين حين ينقص بموقعه من معسكر الكفر فهو يُزيد رُقْعة الإيمان؛ إلى أنْ جاء ما قال فيه الحق سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1-3]
وهناك أناس مُخْلِصون لدين الله، ويحاولون إثبات أن دين الله فيه أشياء تدلُّ على المعاني التي لم تُكتشَفْ بعد، فقالوا على سبيل المثال فَوْر صعود الإنسان إلى القمر: لقد أوضح الحق ذلك حين قال: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]
وقالوا: إنه سلطان العلم.
ولكن ماذا يقولون في قوله بعدها: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35]
فهل يعني ذلك أنه أباح الصعود بسلطان العلم كما تقولون؟
ولهؤلاء نقول: نحن نشكر لكم محاولة رَبْطكم للظواهر العلمية بما جاء بالقرآن، ولكن أين القمر بالنسبة لأقطار السماوات والأرض؟ إنه يبدو كمكان صغير للغاية بالنسبة لهذا الكون المُتَّسع، فأين هو من النجم المسمَّى بالشِّعْري، أو بسلسلة الأجرام المُسمَّاة بالمرأة المُسلْسلَة؟ بل أين هو من المَجَرَّات التي تملأ الفضاء؟
وحين تنظر أنت إلى النجوم التي تعلوك تجد أن بينك وبينها مائة سنة ضوئية، ولو كنت تقصد أن تربط بين سلطان العلم وبين القرآن، فعليك أنْ تأخذ الاحتياط، لأنك لو كنت تنفذُ بسلطان العلم لما قال الحق سبحانه بعدها: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ...} [الرحمن: 35]
وإنْ سألتَ: وما فائدة الآية التي تحكي عن هذا السلطان؛ فهي قد جاءتْ لأن الرسول قد أخبر القوم أنه صعدَ إلى السماء وعُرِج به، أي: أنه صُعِد وعُرِج به بسلطان الله.
وهنا يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا...} [الرعد: 41]
وكلمة أطراف تدلنا على أن لكل شيء طُولًا وعَرْضًا تتحدد به مساحته؛ وكذلك له ارتفاع ليتحدد حجمه. ونحن نعرف أن أيَّ طول له طرفان، وإنْ كان الشيء على شكل مساحي تكون أطرافه بعدد الأضلاع.
ومادام الحق سبحانه يقول هنا: {مِنْ أَطْرَافِهَا...} [الرعد: 41]
أي: من كل نقطة من دائرة المحيط تعتبر طرفًا. ومعنى ذلك أنه سبحانه قد شاء أنْ تضيق أرض الكفار، وأنْ يُوسِّع أرض المؤمنين من كل جهة تحيط بمعسكر الكفر، وهذا القول يدل على أنه عملية مُحْدّثة، ولم تكن كذلك من قبل.
ويتابع سبحانه من بعد ذلك: {والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ...} [الرعد: 41]
أي: أن الموضوع قد بُتَّ فيه وانتهى أمره.. ونحن في حياتنا اليومية نقول: هذا الموضوع قد انتهى؛ لأن الرئيس الكبير قد عقَّب على الحكم فيه.
ونحن في القضاء نجد الحكم يصدر من محكمة الدرجة الابتدائية، ثم يأتي الاستئناف ليؤيد الحكم أو يرفضه، ولا يقال: إن الاستئناف قد عقَّب على الحكم الابتدائي؛ بل يُقال: إنه حكم بكذا إما تأييدًا أو رَفْضًا؛ فما بالنا بحكم مَنْ لا يغفل ولا تخفى عنه خافية، ولا يمكن أن يُعقِّب أحد عليه؟
والمَثلُ في ذلك ما يقوله الحق سبحانه عن سليمان وداود عليهما السلام: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا...} [الأنبياء: 78-79]
وأَصلْ الحكاية أن خلافًا قد حدث بسبب أغنام يملكها إنسان؛ واقتحمتْ الأغنامُ زراعةَ إنسانٍ آخر؛ فتحاكموا إلى داود عليه السلام؛ فقال داود: إن على صاحب الأغنام أن يتنازل عنها لصاحب الأرض.
وكان سيدنا سليمان عليه السلام جالسًا يسمع أطراف الحديث فقال: لا، بل على صاحب الأغنام أن يتنازل عن أغنامه لصاحب الأرض لفترة من الزمن يأخذ من لبنها ويستثمرها، وينتفع بها إلى أن يزرع له صاحب الغنم مثلَ ما أكلتْ الأغنام من أرضه.